تعتبر الصحوة الإسلامية المباركة مرشحة –حضارياً- قبل غيرها للقيام بدورين جدّ بالغين:
الأول: دور "المنقذ من الضلال" للبشرية المصفوعة بمادية الغرب الملحد، وجشع الصهيونية العالمية المدمّرة.
والثاني: دور »المنقذ من التخلف والتبعية« للمسلمين الذي تعصف بهم أطماع الشرق والغرب، وتتربص بهم ا لقوى الغاضبة والحاقدة، وتخطط لتقليص دورهم في حركة التاريخ بإذابة فاعليتهم ونشر الأمية المثلثة في وعيهم، بدءاً بالأمية التاريخية فالدينية فالعقلية.
تعميق البناء الداخلي وبعث الوعي التاريخي
إلا أن هذين الدورين الجليلين والثقيلين –لكي يؤتيا نتائجهما المنشودة ويرتقيا إلى مستوى التأثير والفعالية –مشروطان، أساساً، بتحقيق عاملين هامين: أن يكون المسلمون، أبناء هذه الصحوة المباركة، على مستوى الرسالة التي يحملونها ويجاهدون من أجلها، وفي الوقت نفسه، أن يكونوا على مستوى العصر الذي فيه يعيشون، عصر الوعي والعلم والتقنية.
ولتحقيق العامل الأول نرى وجوب تعميق البناء الداخلي والشامل للفرد المسلم، وبعث الشخصية الإسلامية الفذة من بُعدها العقائدي السليم، وتكوينها الشرعي والعلمي الموسوعي، وفاعليتها المبدعة، وواقعيتها الإيجابية.
وأما عن العامل الثاني فنرى ضرورة بعث الوعي التاريخي والحضاري عموماً مع حذق أسباب النهوض، وأساليب التحدي الحضاري: فكراً وثقافة وتقنية، وفقه كل ما من شأنه أن يعين على توثيق ارتباط المسلم بالسنن الكونية والاجتماعية حتى يستعيد فاعليته وقدرته علىالتغيير والبناء، وتنتفي العشوائية من حركته، والانهزامية من مواقفه: »ذلك أن الإنسان المسلم عبر مسيرته التاريخية، ولا سيما في القرون الأخيرة قد فقد كثيراً من مقومات شخصيته، بفعل عوامل الاحتكاك الحضاري التي واجهته، وهو في حالة لا تؤهله للاستجابة الملائمة للتحدي الحضاري.. ثم إن المسلم في مراحل انزلاقه قد انفكّ ارتباطه بالسنن الكونية والاجتماعية، وسرعان ما وجد أشباه فلاسفة ومتصوفين يقدمون له التبريرات المطلوبة، لفك ارتباطه بالحركة الكونية وللسير عشوائياً على أرض التاريخ، فهو يتحرك دون وعي مسبق، يتحرك غريزياً..« [1] مما يوجب ضرورة بعث الوعي التاريخي، كما أشرت قبل قليل، مع تفهّم طبيعة الواقع الذاتي والموضوعي؛ من خلال التركيز الجاد علىالقراءة المتفهمة للأحداث، وتدبّر السنن المؤثرة والمسيرة لحركة التاريخ.. لدى شبابنا الإسلامي في إ طار الترشيد الثقافي وتعميق التربية وتأصيل التعليم.
فماذا نعني بالوعي التاريخي؟ ثم ما هي المبررات الذاتية والموضوعية التي تلحّ على اكتسابه والتعامل والتحرك من خلاله؟
معنى الوعي التاريخي..
الوعي التاريخي نعني به: ذلك التبصر الدائم والهادف بالتاريخ القريب والبعيد، الذاتي والموضوعي، الحاصل –أي: التبصر- من خلال التوغّل المركّز في قراءة صفحات التجارب البشرية الكثيرة والمتنوعة، وفحصها وتدبّر أبعادها وخلفياتها، واكتشاف المؤثرات والسنن التي ساهمت في بعثها وإيجادها؛ قصد التزوّد والاعتبار، ومحاولة تفهم الأسس السيكولوجية للكثير من الأحداث والصراعات والانفعالات والتأثيرات والحروب.. الحاصلة والمتولدة عبر الأيام في تاريخ البشرية الحافل والطويل.
قيمة الوعي التاريخي..
وقيمة الوعي التاريخي بهذا المفهوم ترجع أساساً إلى كون علم التاريخ ومعرفته تجربة وعبرة، أو كما يعبر عنه علامتنا ابن خلدون: »فن التاريخ: فنّ عزيز المذهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا..« [2] ذلك أن التاريخ في حقيقته: »خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال« [3]
ثم في كونه أيضاً: »تجربة عطاء في شتى مجالات المعرفة والحركة الإنسانية.. وأنه حصيلة سنن تحكم الطبيعة والإنسان والعالم« [4]، ومن هنا نرى القرآن الكريم يولي المسألة التاريخية أهمية كبرى.
القرآن الكريم والدعوة إلى التبصر والتاريخ
كثيراً ما يؤكد القرآن العظيم، وهو الكتاب الحق والخالد، على ضرورة الوعي التاريخي، ويدعو المسلمين إلى التبصر الجاد والمستمر بأحوال الأولين والتمعن في سيرهم للاعتبار والاتعاظ بما جرى لهم حتى لا تتكرر الأخطاء، وحتى يتجنبوا مزالق التيه والضلال التي وقع فيها من سبقهم من الأمم، ومن ثم لينقذوا أنفسهم والبشرية من حولهم بما أنهم شهداء عليها، من سوء العذاب وخسران المصير.
كما أوضح لهم أكثر من مرة أن السنن المسيّرة لحركة التاريخ لا تقتصر على شعب دون شعب ولا على إقليم دون آخر حتى يأخذوا حذرهم.
فالمسائل التاريخية –إذن- المتعلقة بالشعوب السابقة وبمصير الأمم وأحوالها وعلاقاتها الحضارية ثم أسباب سقوطها، وانهيار الحضارات السالفة متوافرة ومطروحة في القرآن الكريم بشكل بارز:
»... إن آياته البينات ترحل بالمؤمنين عبر كل تلاوة في مجرى الزمن، وتحكي لهم عن وقائع التاريخ المزدحمة وأحداثه المتلاحقة ومعطياته المتمخضة عن القيم والعبر والدلالات.. ومعظم سور القرآن تضرب على الوتر نفسه فلا تكاد تخلو من واقعة تاريخية أو حدث ماض أو دعوة لاستلهام المغزى من هذه التجربة أو تلك، إن الامتداد الذهبي والوجداني إلى الماضي يشكل مساحة واسعة في كتاب الله..« [5]
وهذا لا يعني أن القرآن كتاب تاريخ، أو مدوّنة تاريخية ذلك أن كلمة التاريخ لم تذكر لا في القرآن ولا في السنة –كما يؤكد العلامة علال الفاسي- وإنْ قصّ علينا القرآن قصصاً للأولين، لا لنعتبرها تاريخاً بأوقاتها وظروفها ولكن لنتعظ بما فيها من عبرة لأولي الألباب.
قال تعالى:
»ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّنْ لكم وأرسلنا السماءَ عليهم مدراراً وجعلنا الأنهارَ تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرينَ« [الأنعام: 6].
وقال أيضاً:
»وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدُّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد هل من محيص. إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد« [ق: 36-37].
وقال في موضع آخر:
»قد خلتْ من قبلكم سننٌ فسيروا في الآرض فانظروا كيف كانَ عاقبةُ المكذّبين. هذا بيانٌ للناس وهدى وموعظةٌ للمتقين« [آل عمران: 137-138].
وقد عرض القرآنُ الكريم المرتكزات الأساسية لهذه السنن وطلب النظر والتبصر والسير في الأرض وتحقيق العبرة والاعتبار بأحوال الأمم السابقة وسبب انقراضها وتداعيها لتكون الأمة التي تحمل الرسالة الخاتمة على بينة من أمرها وبصيرة بموضع أقدامها ومعرفة بأعدائها..[6]
وهكذا فإن الدارس للسور القرآنية مكيها ومدنيّها يلاحظ في جلاء عدداً هائلاً من الآيات المتمحورة حول القصص، والحافلة بالعروض التاريخية المتنوعة، والهادفة أساساً إلى: »إثارة الفكر البشري ودفعه إلى التساؤل الدائم والدائب عن الحق، وتقديم خلاصات التجارب البشرية عبراً يسير على هديها أولو الألباب، وإزاحة ستار الغفلة والنسيان في نفس الإنسان وصقل ذاكرته وقدرته على المقاومة لكي تظل في مقدمة قواه الفعالة التي هو بأمس الحاجة إلى تفجير طاقاتها دوماً.«[7]
وقد دعانا القرآن الكريم أكثر من مرة عند سرده للواقعة التاريخية إلى: »تأمّلها واعتماد مدلولاتها في أفعالنا الراهنة ونزوعنا المستقبلي.« [8]
الرسول صلى الله عليه وسلم والتاريخ..
وقد نحا الرسول صلى الله عليه وسلم المنحى القرآني في الدعوة إلى الاعتبار بالأولين وأخْذ الموعظة من تجاربهم، وذلك عند توظيفه للحدث الماضي ضمن قصص حية، مرغّبة ومرهّبة، آمرة وناهية، حتى لقد اشتملت الأحاديث النبوية الشريفة علىأربع وأربعين قصة تاريخية تضم قصصاً عن الرسل والأنبياء وغيرهم، مثل: قصة »أصحاب الأخدود« و»الثلاثة المبتلون« و»أصحاب الغار« وهذا لا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مؤرخاً أو مدوّناً للتاريخ بإيراده هذا العدد الهائل من القصص التاريخي، وإنما أراد أن يضع للمسلمين الإطار الذي عليهم أن يملؤوه بما يكتشفونه من أحداث وما يصنعونه من عمليات.
التاريخ في نظر المسلم..
التاريخ في نظر المسلم حسب تعبير »ولفرد كانتول سميث Welfered Cantel Smith « سجل المحاولات البشرية الدائمة لتحقيق ملكوت الله في الأرض، ومن ثم فكل عمل وكل شعور فردياً كان أو اجتماعياً، ذو أهمية بالغة لأن الحاضر هو نتيجة الماضي، والمستقبل متوقف على الحاضر..
والإنسان في التصور الإسلامي يشكل محور فلسفة التاريخ »بحيث يصبح التاريخ الإنساني من صنع الإنسان وبالتالي إبراز قدرة الإنسان على صنع مصيره دون أن يتعارض ذلك مع قدرة الله على الخلق، وما دام الإنسان يصنع تاريخه بنفسه فالأولى به أن يعي هذا التاريخ ويحاول تدبّر علل ظواهره.« [9] ذلك أن الجبرية غير موجودة في الإسلام –كما يقول العلامة علاّل الفاسي- لأن الإنسان ليس خارج التاريخ بل هو من عوامله الداخلية الفاعلة والمفتعلة وليست عمليات التاريخ دون غاية.
وهذا ما يجعل الإنسان المسلم أشدّ اهتماماً بالتاريخ من غيره، فهو على خلاف الماركسي الذي يؤمن بحتمية التاريخ، وبالتالي يتبع عجلة التاريخ دون أن يوجهها أو يؤثر فيها، ثم هو أيضاً على خلاف النصراني الذي يرى في التاريخ نقطة الضعف البشري وسجل الانحرافات البشرية.
ومن هنا احتلّ الفكر التاريخي مكانة مرموقة في الثقافة الإسلامية، سواء في التكوين الثقافي للرجل المسلم، أو في الحياة الاجتماعية والأدب، أو في النشاطات السياسية.. وهو يتخذ أشكالاً متنوعة من سيَر حياة وبالدرجة الأولى حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاجم سيَر وسجلات مدن أو سلالات ووقائع وقصص..
وباختصار نريد أن نقول، والعبارة للباحث ولفرد كانتول سميث: »إن المسلم يحسّ إحساساً جاداً بالتاريخ، إنه يؤمن بأن الله قد وضع نظاماص عملياً واقعياً يسير البشر في الأرض على مقتضاه، ويحاول دائماً أن يصوغ واقع الأرض في إطاره، ومن ثم فهو دائماً يعيش كل عمل فردي أو اجتماعي، وكل شعور فردي أو اجتماعي بمقدار قربه أو بعده من ذلك النظام الذي وضعه الله والذي ينبغي تحقيقه في واقع الأرض لأنه قابل للتحقيق..« [10]
فأين نحن من هذا الإحساس؟
هل وعينا التاريخ؟
لنصارح أنفسنا فنبادر بالإجابة: لا! لم نعِ بعد تاريخنا، لأننا في الحقيقة لم نشغل أنفسنا بالبحث الجازم في هذه القضية رغم حساسيتها وأهميتها وذلك ناتج –ربما- من تجاهلنا أو عدم وعينا بخطورة تغييبها عن حسّنا وتفكيرنا فيما نخطط وندرس وننظر، وكذلك عدم إدراكنا لمدى مساهمتها وانعكاساتها –سلباً وإيجاباً- على حركتنا وممارساتنا، ومن هنا فيجب علينا ألا نخجل من القول بأننا نعاني جفافاً في التعامل مع التاريخ،وإى فبماذا تفسر ملامح تخلفنا في شتى المجالات، وسلسلة الهزائم والنكسات التي تكبدناها إبّان المواجهات العسكرية والجولات السياسية تجاه أعدائها من يهود وصليبيين وغيرهم؟ فقد اكتفينا أو بالأصح –اكتفى الذي يسطرون سياستنا التعليمية، والساهرون (!) على مواردنا التثقيفية والتربوية والإعلامية- بالسرد السطحي الجاف والمسلي للأحداث التاريخية، والتلميح الهزيل والمعتم إلى الأسس السيكولوجي لصراعنا وتعاملنا مع الغرب شرقيّه وغربيّه، بينما نرى الغرب قد نجح –بذكائه الماكر- في توظيف الحدث التاريخي لخدمة أغراضه رغم خبثها ودناءتها:
»...فخيال الحروب الصليبية –التي نتج عنها تسمم العقل الغربي ضد العالم الإسلامي- لا يزال يرفرف فوق الغرب حتى يومنا هذا. كما أن جميع اتجاهاتها وإرجاعها نحو الإسلام والعالم الإسلامي لا تزال تحمل آثاراً واضحة جليّة من ذلك الشبح العنيد الخالد.«
اليهود ومدى الحرص على التاريخ..
وأما اليهود فقد أدركوا الدور الخطير الذي يلعبه التاريخ في حاضر الشعوب ومستقبلها، ومدى الإسهام والعطاء الذي يمنحه وعي الحدث التاريخي وفقه أبعاده لمن يهتم به: ذلك أن التاريخ هو بمثابة ذاكرة الأمة، وبقدر ما تسلم للأمة ذاكرتها وتحسن التعامل معها، بقدر ما يمتدّ تأثيرها وتبرز قدراتها وتقوى شخصيتها.
ولهذا فإن اليهود، وهم أساتذة المكر المدروس، قد ركّزوا كثيراً على التاريخ احتواءً وتشويهاً، خاصة في إطار المناهج التعليمية والتربوية التي حرصوا منذ وقت مبكر على احتوائها وتوجيهها تنفيذاً لأغراضهم العدوانية، وهذه الشواهد الصارخة من بروتوكولاتهم السامة خير دليل على ذلك؛ فقد جاء في البروتوكول السادس عشر:
»... سنتقدم بدراسة مشكلات المستقبل بدلاً من الكلاسيكات، وبدراسة التاريخ القديم الذي يشتمل على مثل سيئة أكثر من اشتماله على مُثُل حسنة، وسنطمس في ذاكرة الإنسان العصور الماضية التي تكون شؤماً علينا ولا نترك إلا الحقائق التي ستظهر أخطاء الحكومات في ألوان قاتمة...«
وجاء في البروتوكول الرابع عشر:
»... وسنوجه عناية خاصة إلى الأخطاء التاريخية للحكومات الأممية التي عذّبت الإنسانية خلال قرون كثيراً جداً...« أي: إن اليهود سيدرّسون للشباب صفحات التاريخ السوداء ليعرفونهم أن الشعوب عندما كانت محكومة بالنظم القديمة كانت حياتها سيئة، ولا يدرّسون لهم الفترات التي كانت فيها الشعوب سعيدة لكي يقنعوهم بهذه الدراسة الكاذبة الزائفة أن النظام الجديد أفضل من القديم.
وكانت عناية اليهود مركزة، بصفة أدق وأشمل، على التاريخ الإسلامي قصدَ تشويه حقائقه أو تقزيمها، وتضخيم نقاطه السوداء إن وجدت، وإلا فاختلاقها وإلصاقها به سهل يسير على أرباب المكر والدهاء؛ ولهذا فقد خصّصت الصهيونية العالمية مؤتمر »بلتيمور« في الولايات المتحدة من أجل تزييف تاريخ الإسلام، وإثارة الجدل حول قضايا الشعوبية والباطنية، وتوظيف بعض المواقف الهدّامة في التاريخ لإضفاء مصطلحات عصرية »مغلّفة« عليها كما فعلت في وصفها لحركة القرامطة بأنها تمثل حركة العدل الاجتماعي، وحركة الزنج التي استغلها دعاة التفسير المادي، وهم يهود طبعاً لأن جدهم ماركس يهودي، وأبرزوها في ثوب »حركة ثورية تقدمية بروليتارية«.. وغيرها كثير.[11]
وقد وجد هؤلاء اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام.. من القيادات الفكرية التغريبية والرموز الثقافية والإعلامية في العالم العربي والإسلامي مساعدات مجانية مشجعة على مستوى التأليف والدعاية والنشر...
هذه باختصار بعض ملامح الحرص اليهودي علىتشويه ذاكرة الأمم بمسخ تاريخها وتزييفه وتعتيمه، وأما على المستوى الآخر: الذاتي الداخلي لليهود فالأمر جدّ مختلف: فالبرامج التعليمية الخاصة باليهود تركز في جانب كبير على بعث الحس التاريخي والعقيدي وتجذيرهما في النشء اليهودي.. فأول كلمة يتعلمها الطفل اليهودي ضمن محفوظاته اليومية في دور الحضانة لها حس تاريخي »أورشليم حبيبتي« ثم حين يشب الأطفال عندهم يدرسون بدقة وتفصيل وإحكام تاريخ الشعب الإسرائيلي: شعب الله المختار على الأرض!! وحين يذهب شبابهم إلى الجامعات يستمرون في تعميق تعاليم دينهم وأمجاد تاريخهم في دروس يومية لا هوادة فيها.
فأين نحن من هذا؟
وبعد..
فخلاصة القول من كل ما أوردنا تتخلص كالآتي:
أولاً- يجب علينا أن نضع حدّاً للجفاف الذي يصبغ تعاملنا مع التاريخ، وأن نجدّد رؤيتنا وفهمنا ودراستنا لتاريخنا الإسلامي، وأن نعمل على إيجاد صيغ سليمة ومتينة تمكننا من التفاعل الهادف مع التاريخ، ومن التزود الواعي والمستمر من معينه الخصب.. وهذا لن يحصل إلا من خلال دراسة عميقة، واعية ومتكاملة للتاريخ الإسلامي: ».. إن دراسة تاريخ الإسلام في هذه المرحلة من حياتنا ضرورة لا سبيل إلى تجاوزها لفهم الأحداث وتطور المجتمع ولمعرفة مكان العالم الإسلامي والأمة العربية من الحضارة العصرية. فإن نظرتنا إلى الأحداث لا تصدق إلا إذا قامت في ظل مفهوم شامل وفي إطار تاريخ الإسلام نفسه، كما أن اتصلنا بالغرب اليوم يجب أن يقوم على مفهوم مرحلة هي رد فعل لمرحلة قد سبقتها، بحسبان أن هذه الحضارة العصربية الغربية ليست منفصلة عن عالم الإسلام، وإنما قامت قواعدها على المنهج التجريبي الإسلامي وعلى بناء صاغه العلماء المسلمون، فنحن حين نتصل بها اليوم لا نكون غرباء عن جذورها فهي ملك للبشرية كلها التي صاغتها وشاركت في تكوين جوانبها المختلفة..« [12]
وثانياً- يجب أن يتأكد لدينا أن قضية الوعي التاريخي أصبحت ضرورية بل مصيرية يتحتم علينا أن نوليها اهتماماً بالغاً وعناية فائقة لا على مستوى الترف الفكري بتكديس الدراسات وتحبير المقالات، ولكن –وهذا هو الأهم- على مستوى الوعي والتربية والحركة وعلى مستوى التعامل والممارسات اليومية؛ وهذا لن يتيسر إلا ببعث سياسة تعليمية وتربوية متأصلة تركز على بعث الوعي التاريخي الهادف، وتعميق البعد العقيدي في برامجها على طول المراحل التعليمية بدءاً برياض الأطفال وانتهاء بالتعليم العالي؛ ويرادفها –أي هذه السياسة التعليمية- جهاز ثقافي وإعلامي في مستوى العصر تجهيزاً وتقنية، يؤثر ولا يتأثر ويتوخى الصدق والعلمية والموضوعية في كل أعماله.
وبذلك –حسب رأيي- نتمكن من تجاوز كثير من العوائق المادية والمعنوية التي تحول دون تحقيق أهدافنا وغاياتنا: من نشر الدعوة الإسلامية بما فيها من خير وأمن وعدل للإنسانية.. إلى إقامة المجتمع الإسلامي المنشود الذي هو أمل البشرية وربيعها المنتظر..
مجلة الأمة، العدد 42، جمادى الآخرة 1404 هـ
الأول: دور "المنقذ من الضلال" للبشرية المصفوعة بمادية الغرب الملحد، وجشع الصهيونية العالمية المدمّرة.
والثاني: دور »المنقذ من التخلف والتبعية« للمسلمين الذي تعصف بهم أطماع الشرق والغرب، وتتربص بهم ا لقوى الغاضبة والحاقدة، وتخطط لتقليص دورهم في حركة التاريخ بإذابة فاعليتهم ونشر الأمية المثلثة في وعيهم، بدءاً بالأمية التاريخية فالدينية فالعقلية.
تعميق البناء الداخلي وبعث الوعي التاريخي
إلا أن هذين الدورين الجليلين والثقيلين –لكي يؤتيا نتائجهما المنشودة ويرتقيا إلى مستوى التأثير والفعالية –مشروطان، أساساً، بتحقيق عاملين هامين: أن يكون المسلمون، أبناء هذه الصحوة المباركة، على مستوى الرسالة التي يحملونها ويجاهدون من أجلها، وفي الوقت نفسه، أن يكونوا على مستوى العصر الذي فيه يعيشون، عصر الوعي والعلم والتقنية.
ولتحقيق العامل الأول نرى وجوب تعميق البناء الداخلي والشامل للفرد المسلم، وبعث الشخصية الإسلامية الفذة من بُعدها العقائدي السليم، وتكوينها الشرعي والعلمي الموسوعي، وفاعليتها المبدعة، وواقعيتها الإيجابية.
وأما عن العامل الثاني فنرى ضرورة بعث الوعي التاريخي والحضاري عموماً مع حذق أسباب النهوض، وأساليب التحدي الحضاري: فكراً وثقافة وتقنية، وفقه كل ما من شأنه أن يعين على توثيق ارتباط المسلم بالسنن الكونية والاجتماعية حتى يستعيد فاعليته وقدرته علىالتغيير والبناء، وتنتفي العشوائية من حركته، والانهزامية من مواقفه: »ذلك أن الإنسان المسلم عبر مسيرته التاريخية، ولا سيما في القرون الأخيرة قد فقد كثيراً من مقومات شخصيته، بفعل عوامل الاحتكاك الحضاري التي واجهته، وهو في حالة لا تؤهله للاستجابة الملائمة للتحدي الحضاري.. ثم إن المسلم في مراحل انزلاقه قد انفكّ ارتباطه بالسنن الكونية والاجتماعية، وسرعان ما وجد أشباه فلاسفة ومتصوفين يقدمون له التبريرات المطلوبة، لفك ارتباطه بالحركة الكونية وللسير عشوائياً على أرض التاريخ، فهو يتحرك دون وعي مسبق، يتحرك غريزياً..« [1] مما يوجب ضرورة بعث الوعي التاريخي، كما أشرت قبل قليل، مع تفهّم طبيعة الواقع الذاتي والموضوعي؛ من خلال التركيز الجاد علىالقراءة المتفهمة للأحداث، وتدبّر السنن المؤثرة والمسيرة لحركة التاريخ.. لدى شبابنا الإسلامي في إ طار الترشيد الثقافي وتعميق التربية وتأصيل التعليم.
فماذا نعني بالوعي التاريخي؟ ثم ما هي المبررات الذاتية والموضوعية التي تلحّ على اكتسابه والتعامل والتحرك من خلاله؟
معنى الوعي التاريخي..
الوعي التاريخي نعني به: ذلك التبصر الدائم والهادف بالتاريخ القريب والبعيد، الذاتي والموضوعي، الحاصل –أي: التبصر- من خلال التوغّل المركّز في قراءة صفحات التجارب البشرية الكثيرة والمتنوعة، وفحصها وتدبّر أبعادها وخلفياتها، واكتشاف المؤثرات والسنن التي ساهمت في بعثها وإيجادها؛ قصد التزوّد والاعتبار، ومحاولة تفهم الأسس السيكولوجية للكثير من الأحداث والصراعات والانفعالات والتأثيرات والحروب.. الحاصلة والمتولدة عبر الأيام في تاريخ البشرية الحافل والطويل.
قيمة الوعي التاريخي..
وقيمة الوعي التاريخي بهذا المفهوم ترجع أساساً إلى كون علم التاريخ ومعرفته تجربة وعبرة، أو كما يعبر عنه علامتنا ابن خلدون: »فن التاريخ: فنّ عزيز المذهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا..« [2] ذلك أن التاريخ في حقيقته: »خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال« [3]
ثم في كونه أيضاً: »تجربة عطاء في شتى مجالات المعرفة والحركة الإنسانية.. وأنه حصيلة سنن تحكم الطبيعة والإنسان والعالم« [4]، ومن هنا نرى القرآن الكريم يولي المسألة التاريخية أهمية كبرى.
القرآن الكريم والدعوة إلى التبصر والتاريخ
كثيراً ما يؤكد القرآن العظيم، وهو الكتاب الحق والخالد، على ضرورة الوعي التاريخي، ويدعو المسلمين إلى التبصر الجاد والمستمر بأحوال الأولين والتمعن في سيرهم للاعتبار والاتعاظ بما جرى لهم حتى لا تتكرر الأخطاء، وحتى يتجنبوا مزالق التيه والضلال التي وقع فيها من سبقهم من الأمم، ومن ثم لينقذوا أنفسهم والبشرية من حولهم بما أنهم شهداء عليها، من سوء العذاب وخسران المصير.
كما أوضح لهم أكثر من مرة أن السنن المسيّرة لحركة التاريخ لا تقتصر على شعب دون شعب ولا على إقليم دون آخر حتى يأخذوا حذرهم.
فالمسائل التاريخية –إذن- المتعلقة بالشعوب السابقة وبمصير الأمم وأحوالها وعلاقاتها الحضارية ثم أسباب سقوطها، وانهيار الحضارات السالفة متوافرة ومطروحة في القرآن الكريم بشكل بارز:
»... إن آياته البينات ترحل بالمؤمنين عبر كل تلاوة في مجرى الزمن، وتحكي لهم عن وقائع التاريخ المزدحمة وأحداثه المتلاحقة ومعطياته المتمخضة عن القيم والعبر والدلالات.. ومعظم سور القرآن تضرب على الوتر نفسه فلا تكاد تخلو من واقعة تاريخية أو حدث ماض أو دعوة لاستلهام المغزى من هذه التجربة أو تلك، إن الامتداد الذهبي والوجداني إلى الماضي يشكل مساحة واسعة في كتاب الله..« [5]
وهذا لا يعني أن القرآن كتاب تاريخ، أو مدوّنة تاريخية ذلك أن كلمة التاريخ لم تذكر لا في القرآن ولا في السنة –كما يؤكد العلامة علال الفاسي- وإنْ قصّ علينا القرآن قصصاً للأولين، لا لنعتبرها تاريخاً بأوقاتها وظروفها ولكن لنتعظ بما فيها من عبرة لأولي الألباب.
قال تعالى:
»ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّنْ لكم وأرسلنا السماءَ عليهم مدراراً وجعلنا الأنهارَ تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرينَ« [الأنعام: 6].
وقال أيضاً:
»وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدُّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد هل من محيص. إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد« [ق: 36-37].
وقال في موضع آخر:
»قد خلتْ من قبلكم سننٌ فسيروا في الآرض فانظروا كيف كانَ عاقبةُ المكذّبين. هذا بيانٌ للناس وهدى وموعظةٌ للمتقين« [آل عمران: 137-138].
وقد عرض القرآنُ الكريم المرتكزات الأساسية لهذه السنن وطلب النظر والتبصر والسير في الأرض وتحقيق العبرة والاعتبار بأحوال الأمم السابقة وسبب انقراضها وتداعيها لتكون الأمة التي تحمل الرسالة الخاتمة على بينة من أمرها وبصيرة بموضع أقدامها ومعرفة بأعدائها..[6]
وهكذا فإن الدارس للسور القرآنية مكيها ومدنيّها يلاحظ في جلاء عدداً هائلاً من الآيات المتمحورة حول القصص، والحافلة بالعروض التاريخية المتنوعة، والهادفة أساساً إلى: »إثارة الفكر البشري ودفعه إلى التساؤل الدائم والدائب عن الحق، وتقديم خلاصات التجارب البشرية عبراً يسير على هديها أولو الألباب، وإزاحة ستار الغفلة والنسيان في نفس الإنسان وصقل ذاكرته وقدرته على المقاومة لكي تظل في مقدمة قواه الفعالة التي هو بأمس الحاجة إلى تفجير طاقاتها دوماً.«[7]
وقد دعانا القرآن الكريم أكثر من مرة عند سرده للواقعة التاريخية إلى: »تأمّلها واعتماد مدلولاتها في أفعالنا الراهنة ونزوعنا المستقبلي.« [8]
الرسول صلى الله عليه وسلم والتاريخ..
وقد نحا الرسول صلى الله عليه وسلم المنحى القرآني في الدعوة إلى الاعتبار بالأولين وأخْذ الموعظة من تجاربهم، وذلك عند توظيفه للحدث الماضي ضمن قصص حية، مرغّبة ومرهّبة، آمرة وناهية، حتى لقد اشتملت الأحاديث النبوية الشريفة علىأربع وأربعين قصة تاريخية تضم قصصاً عن الرسل والأنبياء وغيرهم، مثل: قصة »أصحاب الأخدود« و»الثلاثة المبتلون« و»أصحاب الغار« وهذا لا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مؤرخاً أو مدوّناً للتاريخ بإيراده هذا العدد الهائل من القصص التاريخي، وإنما أراد أن يضع للمسلمين الإطار الذي عليهم أن يملؤوه بما يكتشفونه من أحداث وما يصنعونه من عمليات.
التاريخ في نظر المسلم..
التاريخ في نظر المسلم حسب تعبير »ولفرد كانتول سميث Welfered Cantel Smith « سجل المحاولات البشرية الدائمة لتحقيق ملكوت الله في الأرض، ومن ثم فكل عمل وكل شعور فردياً كان أو اجتماعياً، ذو أهمية بالغة لأن الحاضر هو نتيجة الماضي، والمستقبل متوقف على الحاضر..
والإنسان في التصور الإسلامي يشكل محور فلسفة التاريخ »بحيث يصبح التاريخ الإنساني من صنع الإنسان وبالتالي إبراز قدرة الإنسان على صنع مصيره دون أن يتعارض ذلك مع قدرة الله على الخلق، وما دام الإنسان يصنع تاريخه بنفسه فالأولى به أن يعي هذا التاريخ ويحاول تدبّر علل ظواهره.« [9] ذلك أن الجبرية غير موجودة في الإسلام –كما يقول العلامة علاّل الفاسي- لأن الإنسان ليس خارج التاريخ بل هو من عوامله الداخلية الفاعلة والمفتعلة وليست عمليات التاريخ دون غاية.
وهذا ما يجعل الإنسان المسلم أشدّ اهتماماً بالتاريخ من غيره، فهو على خلاف الماركسي الذي يؤمن بحتمية التاريخ، وبالتالي يتبع عجلة التاريخ دون أن يوجهها أو يؤثر فيها، ثم هو أيضاً على خلاف النصراني الذي يرى في التاريخ نقطة الضعف البشري وسجل الانحرافات البشرية.
ومن هنا احتلّ الفكر التاريخي مكانة مرموقة في الثقافة الإسلامية، سواء في التكوين الثقافي للرجل المسلم، أو في الحياة الاجتماعية والأدب، أو في النشاطات السياسية.. وهو يتخذ أشكالاً متنوعة من سيَر حياة وبالدرجة الأولى حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاجم سيَر وسجلات مدن أو سلالات ووقائع وقصص..
وباختصار نريد أن نقول، والعبارة للباحث ولفرد كانتول سميث: »إن المسلم يحسّ إحساساً جاداً بالتاريخ، إنه يؤمن بأن الله قد وضع نظاماص عملياً واقعياً يسير البشر في الأرض على مقتضاه، ويحاول دائماً أن يصوغ واقع الأرض في إطاره، ومن ثم فهو دائماً يعيش كل عمل فردي أو اجتماعي، وكل شعور فردي أو اجتماعي بمقدار قربه أو بعده من ذلك النظام الذي وضعه الله والذي ينبغي تحقيقه في واقع الأرض لأنه قابل للتحقيق..« [10]
فأين نحن من هذا الإحساس؟
هل وعينا التاريخ؟
لنصارح أنفسنا فنبادر بالإجابة: لا! لم نعِ بعد تاريخنا، لأننا في الحقيقة لم نشغل أنفسنا بالبحث الجازم في هذه القضية رغم حساسيتها وأهميتها وذلك ناتج –ربما- من تجاهلنا أو عدم وعينا بخطورة تغييبها عن حسّنا وتفكيرنا فيما نخطط وندرس وننظر، وكذلك عدم إدراكنا لمدى مساهمتها وانعكاساتها –سلباً وإيجاباً- على حركتنا وممارساتنا، ومن هنا فيجب علينا ألا نخجل من القول بأننا نعاني جفافاً في التعامل مع التاريخ،وإى فبماذا تفسر ملامح تخلفنا في شتى المجالات، وسلسلة الهزائم والنكسات التي تكبدناها إبّان المواجهات العسكرية والجولات السياسية تجاه أعدائها من يهود وصليبيين وغيرهم؟ فقد اكتفينا أو بالأصح –اكتفى الذي يسطرون سياستنا التعليمية، والساهرون (!) على مواردنا التثقيفية والتربوية والإعلامية- بالسرد السطحي الجاف والمسلي للأحداث التاريخية، والتلميح الهزيل والمعتم إلى الأسس السيكولوجي لصراعنا وتعاملنا مع الغرب شرقيّه وغربيّه، بينما نرى الغرب قد نجح –بذكائه الماكر- في توظيف الحدث التاريخي لخدمة أغراضه رغم خبثها ودناءتها:
»...فخيال الحروب الصليبية –التي نتج عنها تسمم العقل الغربي ضد العالم الإسلامي- لا يزال يرفرف فوق الغرب حتى يومنا هذا. كما أن جميع اتجاهاتها وإرجاعها نحو الإسلام والعالم الإسلامي لا تزال تحمل آثاراً واضحة جليّة من ذلك الشبح العنيد الخالد.«
اليهود ومدى الحرص على التاريخ..
وأما اليهود فقد أدركوا الدور الخطير الذي يلعبه التاريخ في حاضر الشعوب ومستقبلها، ومدى الإسهام والعطاء الذي يمنحه وعي الحدث التاريخي وفقه أبعاده لمن يهتم به: ذلك أن التاريخ هو بمثابة ذاكرة الأمة، وبقدر ما تسلم للأمة ذاكرتها وتحسن التعامل معها، بقدر ما يمتدّ تأثيرها وتبرز قدراتها وتقوى شخصيتها.
ولهذا فإن اليهود، وهم أساتذة المكر المدروس، قد ركّزوا كثيراً على التاريخ احتواءً وتشويهاً، خاصة في إطار المناهج التعليمية والتربوية التي حرصوا منذ وقت مبكر على احتوائها وتوجيهها تنفيذاً لأغراضهم العدوانية، وهذه الشواهد الصارخة من بروتوكولاتهم السامة خير دليل على ذلك؛ فقد جاء في البروتوكول السادس عشر:
»... سنتقدم بدراسة مشكلات المستقبل بدلاً من الكلاسيكات، وبدراسة التاريخ القديم الذي يشتمل على مثل سيئة أكثر من اشتماله على مُثُل حسنة، وسنطمس في ذاكرة الإنسان العصور الماضية التي تكون شؤماً علينا ولا نترك إلا الحقائق التي ستظهر أخطاء الحكومات في ألوان قاتمة...«
وجاء في البروتوكول الرابع عشر:
»... وسنوجه عناية خاصة إلى الأخطاء التاريخية للحكومات الأممية التي عذّبت الإنسانية خلال قرون كثيراً جداً...« أي: إن اليهود سيدرّسون للشباب صفحات التاريخ السوداء ليعرفونهم أن الشعوب عندما كانت محكومة بالنظم القديمة كانت حياتها سيئة، ولا يدرّسون لهم الفترات التي كانت فيها الشعوب سعيدة لكي يقنعوهم بهذه الدراسة الكاذبة الزائفة أن النظام الجديد أفضل من القديم.
وكانت عناية اليهود مركزة، بصفة أدق وأشمل، على التاريخ الإسلامي قصدَ تشويه حقائقه أو تقزيمها، وتضخيم نقاطه السوداء إن وجدت، وإلا فاختلاقها وإلصاقها به سهل يسير على أرباب المكر والدهاء؛ ولهذا فقد خصّصت الصهيونية العالمية مؤتمر »بلتيمور« في الولايات المتحدة من أجل تزييف تاريخ الإسلام، وإثارة الجدل حول قضايا الشعوبية والباطنية، وتوظيف بعض المواقف الهدّامة في التاريخ لإضفاء مصطلحات عصرية »مغلّفة« عليها كما فعلت في وصفها لحركة القرامطة بأنها تمثل حركة العدل الاجتماعي، وحركة الزنج التي استغلها دعاة التفسير المادي، وهم يهود طبعاً لأن جدهم ماركس يهودي، وأبرزوها في ثوب »حركة ثورية تقدمية بروليتارية«.. وغيرها كثير.[11]
وقد وجد هؤلاء اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام.. من القيادات الفكرية التغريبية والرموز الثقافية والإعلامية في العالم العربي والإسلامي مساعدات مجانية مشجعة على مستوى التأليف والدعاية والنشر...
هذه باختصار بعض ملامح الحرص اليهودي علىتشويه ذاكرة الأمم بمسخ تاريخها وتزييفه وتعتيمه، وأما على المستوى الآخر: الذاتي الداخلي لليهود فالأمر جدّ مختلف: فالبرامج التعليمية الخاصة باليهود تركز في جانب كبير على بعث الحس التاريخي والعقيدي وتجذيرهما في النشء اليهودي.. فأول كلمة يتعلمها الطفل اليهودي ضمن محفوظاته اليومية في دور الحضانة لها حس تاريخي »أورشليم حبيبتي« ثم حين يشب الأطفال عندهم يدرسون بدقة وتفصيل وإحكام تاريخ الشعب الإسرائيلي: شعب الله المختار على الأرض!! وحين يذهب شبابهم إلى الجامعات يستمرون في تعميق تعاليم دينهم وأمجاد تاريخهم في دروس يومية لا هوادة فيها.
فأين نحن من هذا؟
وبعد..
فخلاصة القول من كل ما أوردنا تتخلص كالآتي:
أولاً- يجب علينا أن نضع حدّاً للجفاف الذي يصبغ تعاملنا مع التاريخ، وأن نجدّد رؤيتنا وفهمنا ودراستنا لتاريخنا الإسلامي، وأن نعمل على إيجاد صيغ سليمة ومتينة تمكننا من التفاعل الهادف مع التاريخ، ومن التزود الواعي والمستمر من معينه الخصب.. وهذا لن يحصل إلا من خلال دراسة عميقة، واعية ومتكاملة للتاريخ الإسلامي: ».. إن دراسة تاريخ الإسلام في هذه المرحلة من حياتنا ضرورة لا سبيل إلى تجاوزها لفهم الأحداث وتطور المجتمع ولمعرفة مكان العالم الإسلامي والأمة العربية من الحضارة العصرية. فإن نظرتنا إلى الأحداث لا تصدق إلا إذا قامت في ظل مفهوم شامل وفي إطار تاريخ الإسلام نفسه، كما أن اتصلنا بالغرب اليوم يجب أن يقوم على مفهوم مرحلة هي رد فعل لمرحلة قد سبقتها، بحسبان أن هذه الحضارة العصربية الغربية ليست منفصلة عن عالم الإسلام، وإنما قامت قواعدها على المنهج التجريبي الإسلامي وعلى بناء صاغه العلماء المسلمون، فنحن حين نتصل بها اليوم لا نكون غرباء عن جذورها فهي ملك للبشرية كلها التي صاغتها وشاركت في تكوين جوانبها المختلفة..« [12]
وثانياً- يجب أن يتأكد لدينا أن قضية الوعي التاريخي أصبحت ضرورية بل مصيرية يتحتم علينا أن نوليها اهتماماً بالغاً وعناية فائقة لا على مستوى الترف الفكري بتكديس الدراسات وتحبير المقالات، ولكن –وهذا هو الأهم- على مستوى الوعي والتربية والحركة وعلى مستوى التعامل والممارسات اليومية؛ وهذا لن يتيسر إلا ببعث سياسة تعليمية وتربوية متأصلة تركز على بعث الوعي التاريخي الهادف، وتعميق البعد العقيدي في برامجها على طول المراحل التعليمية بدءاً برياض الأطفال وانتهاء بالتعليم العالي؛ ويرادفها –أي هذه السياسة التعليمية- جهاز ثقافي وإعلامي في مستوى العصر تجهيزاً وتقنية، يؤثر ولا يتأثر ويتوخى الصدق والعلمية والموضوعية في كل أعماله.
وبذلك –حسب رأيي- نتمكن من تجاوز كثير من العوائق المادية والمعنوية التي تحول دون تحقيق أهدافنا وغاياتنا: من نشر الدعوة الإسلامية بما فيها من خير وأمن وعدل للإنسانية.. إلى إقامة المجتمع الإسلامي المنشود الذي هو أمل البشرية وربيعها المنتظر..
مجلة الأمة، العدد 42، جمادى الآخرة 1404 هـ
الجمعة 7 يناير - 15:32:06 من طرف المدير العام
» تطبيق almishahidروعة لمشاهدة قنوات العالم والرياضية
الأربعاء 5 يناير - 2:03:49 من طرف المدير العام
» تاريخ الصحراء الغربية
الجمعة 13 نوفمبر - 21:07:22 من طرف المدير العام
» تعلم الاختراق ببرورات .صنع سيرفر برورات
الأحد 6 سبتمبر - 20:51:22 من طرف Google
» ماهو فيروس الايبولا القاتل ?
الأحد 7 ديسمبر - 19:38:36 من طرف Google
» شرح معنى CNAME,A,MX,NS,TXTفي البرمجة
الأحد 20 يوليو - 6:14:19 من طرف النهر الخالد
» مشهد لمسرحية في يوم العلم 2013
الإثنين 16 يونيو - 0:50:08 من طرف المدير العام
» كتب الموسيقى pdf
الإثنين 16 يونيو - 0:48:34 من طرف المدير العام
» نبذة عن المنتخبات المشاركة في كاس العالم
الإثنين 9 يونيو - 21:03:19 من طرف المدير العام
» وعدة مولاي الطيب بوقطب 2012
الجمعة 4 أبريل - 23:13:39 من طرف المدير العام